جنين- مازالت اللاجئة الستينية سهام زكارنة من بلدة قباطية جنوب جنين تتذكر الأيام التي التقت بها للمرة الأولى قبل أربعين عاما، و بالتحديد في العام 1967 بالشهيد القائد ياسر عرفات في جبال قباطية برفقة عدد من الفدائيين في إحدى المغر في الجبال، وكيف كانت تنقل لهم الماء والغذاء وتخاطر على نفسها من اجل خدمته. وعادت زكارنة بذاكرتها إلى شهر حزيران من عام 1967 عندما هاجرت وزوجها وأفراد عائلتها عن مسكنها في البلدة والمئات من العائلات أيضا بعد أن احتل الجيش الإسرائيلي مدينة جنين وبلدة قباطية وانتقلت إلى مدينة نابلس ومكثت في مدرسة هناك لمدة أربعة أيام حتى جاء الاحتلال إلى نابلس واحتل أجزاء كبيرة منها.وتضيف «في اليوم الرابع من النزوح اقتحم الجيش الإسرائيلي مدرسة التي اختبأنا فيها وطلبوا من جميع العائلات العودة إلى مساكنها وانطلق الجميع في طريقهم إلى قباطية وما أن وصل هؤلاء قرية مثلث الشهداء المجاورة لبلدة قباطية حتى فوجئوا بتواجد مكثف للجيش الإسرائيلي في المنطقة وتم احتجازهم حتى ساعات المساء».
ورغم أنها بضعة أيام تلك التي غابت بها زكارنة عن بلدتها قباطية، إلا أن البلدة كانت في وضع يرثى له فالشوارع الخالية إلا من الدوريات العسكرية الاسرائيلية حيث كان الأهالي ملتزمون في منازلهم بموجب أوامر عسكرية صادرة عن قوات الاحتلال تحظر التجول بعد غياب الشمس في وقت كانت فيه الكهرباء والماء مقطوعة عن البلدة ويستخدم الأهالي سراج الزيت لأغراض الإنارة.
وبعد نحو أسبوعين من الاحتلال بدأ الأهالي يعودون شيئا فشيئا إلى حياتهم الطبيعية فكان الرجال يخرجون إلى الجبال بحثا عن اللوز والصبر.
في تلك الأيام تقول «العصفورة» وهو اللقب الذي أطلقه عليها «أبو عمار» واشتهرت به في جنين خرج شقيقها رضا برفقة أصدقائه محمد عبد جعفر ومحمد البرجس وهشام الباير وعلي جعفر إلى جبال قباطية حتى بلغوا منطقة هناك تدعى «مراح شومر» وعثروا على مغارة على مدخلها زيتونة صغيرة تظلل عليها ودفع الفضول الأصدقاء الاربعة دخول هذه المغارة ومعرفة ما بداخلها فوجدوا أربعه فدائيين كان أبو عمار خامسهم من بينهم أبو علي المدني ونصري سعد الله واثنين من صير وبيت فوريك.
داخل المغارة
كان الفدائيون الاربعة يجلسون داخل المغارة مكانا للاستراحة دون أن يعرف احد من الزائرين الاربعة هوية ذلك الرجل الذي كان يغطي وجهه اللثام رغم أنهم أدركوا أنهم يقابلون خلية فدائية عندما شاهدوا أربعة بنادق انجليزية على جدار المغارة.
وتتابع أم وائل قائلة أن شقيقها ورفاقه الاربعة غابوا عن البلدة أربعة أيام متواصلة دون خبر وعادوا في اليوم الخامس عند غروب أشعة الشمس، في وقت كان والدها ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام بحقه في سجن عكا وتم إلباسه البدلة الحمراء على خلفية نشاطه في مجموعة «الكف الأسود» التي كانت تناضل ضد الاستعمار البريطاني وتم شمله وسائر المعتقلين بالعفو الذي صدر عنه عن ملكة بريطانيا.
تقول العصفورة أن والدتها ورغم قوتها أبلغت ابنها أنها تشعر بالخوف فطلب منها أن تحضر وبرفقتها شقيقته سهام حتى تشعر بنوع من الطمأنينة وهي في طريقها إلى الجبل الموحش.
في ذلك اليوم كانت أم وائل حاملا في شهرها الثامن إلا أنها قررت تلبية رغبة شقيقها رغم صعوبة الطريق، تقول زكارنة أنها كانت تصل باب المغارة وتضع الشراب والطعام وتعود إلى والدتها التي كانت تنتظر على بعد عشرات الأمتار وقد أنهكها التعب.
وفي المرة الثالثة وضعت تلك الشابة ولم تبلغ من العمر بعد 21 عاما الطعام والشراب على باب المغارة فخرج إليها أبو علي المدني وقال لها « يا أختي أنت اختنا وهذه أمنا بعهد الله « وطلب منهما دخول المغارة.
وعندما دخلت زكارنه برفقة والدتها المغارة وقعت أنظار الابنة على شخص يرتدي سترة طويلة سوداء اللون وبنطال من ذات اللون يتكيء على صخرة صغيرة وقد غطى جزءا من وجهه اللثام الأسود دون أن تدركان انه أبو عمار.
كلمات لاذعة في حضرة القائد الملثم:
وتتذكر أم وائل جيدا تلك اللحظات عندما شعر «أبو عمار» بوجودها ووالدتها فجلس متربعا دون أن ينطق بكلمة واحدة في وقت صرخت فيه الأم وأمسكته بقوة من كتفه وتبكي وتقول «اخوي وأختي راحوا في الحرب ابني احمد مات وعمره ست سنوات وما عندي غير رضا وهالبنتين حرام عليك حرام» في تلك اللحظات لم تكن الأم تشعر بنفسها من شدة خوفها على ابنها رضا الذي كان يقف خلف أبو عمار الذي سألته الأم عن هويته فرد عليها مبتسما «هدي يا حجة أنا اسمي محمد عبد الرؤوف القدوة» إلا أن الأم لم تتوقف عن توجيه الكلمات اللاذعة للشخص الذي كان يقف أمامها وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيه رغم الإشارات التي كان يوجهها لها ابنها ويوحي لها بأن تصمت لأنها تقف أمام قائد.
كان ذلك كما تقول العصفورة الموقف الأول والأخير من نوعه حيث أبت الأم ان تتقبل فكرة انضمام ابنها لخلية فدائية مقاومة للاحتلال وبدأ ابو عمار يتردد على منزل العائلة في الحي الشرقي من بلدة قباطية.
الحضور عند الغروب
وبحسب العصفورة كان أبو عمار يحضر إلى منزل العائلة خلسة بعد غروب الشمس لأغراض الاستحمام في وقت كانت تقوم فيه على غسيل ملابسه وتعد له الطعام.
وقالت « رافقني أبو عمار في المرة الثانية من زيارته لمنزل أهلي ونظمني في صفوف حركة فتح» ومكث وباقي خليته في جبال قباطية نحو شهرين حتى أخذت القوات الاسرائيلية تسير الدوريات العسكرية الراجلة والمحمولة في محيط القرية في وضع يؤكد أن الخطر أصبح داهما دفع أفراد الخلية إلى اتخاذ قرار بمغادرة المكان.
وفي صبيحة اليوم التالي أحضرت زكارنة الطعام والشراب إلى المغارة حيث شاهدت أبو عمار وقد جهز نفسه للرحيل فسألته إلى أين ؟ مجيبا « إلى جبال يعبد» وأطلق عليها لقب «العصفورة» لكونها كانت تواجه الكثير من المأزق في سبيل إحضار الطعام والشراب وطلب منها إحضار جملين مع شخصين يوثق بهما من اجل نقلهما إلى المكان المنشود وما كان من «العصفورة» إلا أن تلبي ما طلبه القائد منها فأقنعت احد الجيران في السكن بالقيام بهذه المهمة مقابل مبلغ من المال بعد أن أبلغته أن شقيقها رضا وعددا من رفاقه في خطر بسبب مطاردتهم من قبل القوات الاسرائيلية.
وتضيف بعد أن وجدنا المبتغى خرج أبو عمار ورفاقه بعد أن تنكروا بلباس بدو رحل وجعلوا الجمال والأغنام تسبقهم ليكونوا خلف القطيع متوجهين إلى جبال يعبد جنوب غرب مدينة جنين.
وداع بالدموع
وتقول «العصفورة» أنها بكت بحرقة على فراق أبو عمار وشقيقها رضا لمغادرتهما المكان بينما والدتها فقد ودعت ابنها بصراخ وبكاء شديدين حتى غابت القافلة عن الأنظار.
وبعد نحو عشرة أيام من رحيل «أبو عمار» وصحبه إلى جبال يعبد تقول «العصفورة» أن شقيقها رضا عاد وبرفقته هاشم الباير وطلب من والدته إحضار حبل غليظ من الليف من دكان احد الجيران وكان ابنه احد أفراد الخلية الفدائية لجعله على شكل سلالم لعبور الشريعة إلى الأردن بعد أن اكتشف الجيش الاسرائيلية وجود الخلية في احد جبال يعبد وقيامه بعمليات تمشيط في المكان بحثا افراد عن الخلية الفدائية ولم تستطع الأم معارضة طلب ابنها فأحضرت له ما طلبه وهي تودعه بالدموع.
واستشهد الشقيقان فتحي وفالح الراشد وكلاهما من قباطية ومن أعضاء الخلية الفدائية التي قطعت الشريعة غرقا فيما تمكن أبو عمار ومن تبقى من أفراد خليته من العبور وصولا إلى الأردن حيث كانت العصفورة تتابع أخباره وشقيقها أولا بأول.
وقالت زكارنة أن شقيقها رضا التحق بالقوة 17 وفي السابع من آذار عام 1969 نفذ برفقة أفراد خلية فدائية من حركة فتح أول عملية فدائية في منطقة بيسان وتم اعتقاله وأفراد خليته جعفر الملاح وهشام الباير ومحمد برجس خلال محاولتهم تنفيذ العملية الثانية وصدرت بحقهم أحكام بالسجن الفعلي لمدة 17عاما لكل واحد منهم وأطلق سراحهم معا في إطار حملة تبادل الأسرى في العام 1985 حيث تم نقلهم إلى الجزائر ومنها إلى تونس وصولا إلى الأردن.
وفي العام 1971 توجهت زكارنة إلى الأردن ودخلت مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية في جبل الحسين في الأردن برفقة والدتها العجوز التي سرعان ما شاهدت أبو عمار وبدأت تصرخ وتبكي حزنا على ابنها المعتقل.
وتتذكر «العصفورة» التي فرضت عليها السلطات الاسرائيلية الإقامة الجبرية منذ عام 1976 ولغاية العام 1982 يوم التقت أبو عمار خلال المؤتمر الشعبي الفلسطيني الذي انعقد في عمان في عام 1987 فيما كانت المرة الأولى التي تلتقيه فيها منذ عودته إلى ارض الوطن في أوائل تموز عام 1997 عندما زار الرئيس جنين وطلب لقاء العصفورة .
وفي هذا اليوم تقول العصفورة: «رن جرس الهاتف وطلب المتحدث العصفورة وعندما سألته عن هويته ابلغها أن الرئيس في قاعة بلدية جنين يطلب لقاءها ولم تكد زكارنه تعيد السماعة إلى مكانها وإذا بسيارة شرطة فلسطينية تقف أمام منزلها ويترجل منها ضابط يطلب منها مرافقته إلى الرئيس الذي قبل جبينها ويديها لعدة مرات».
ولم يكن الاتصال لينقطع يوما بين «العصفورة» والقائد حيث قالت:» في كل مرة كنت أريد فيها الاطمئنان على صحة الرئيس كنت اطلبه عن طريق الهاتف في تونس».
مع العلم أن القائد الشهيد «أبو عمار» كان قد منح «العصفورة» رتبة عقيد في الشرطة تكريما للخدمات التي قدمتها للثورة والمقاومة.
وقالت بمناسبة الذكرى الرابعة لاستشهاد أبو عمار «أن أبو عمار لم يمت انه هنا في جبال قباطية وفي جنين وفي غزة والقدس انه في كل مكان لان الشعب الفلسطيني كله أبو عمار «.